كما أن للمرءِ في طريقِ سيرِه إلى اللهِ تعالى لابد له من علمٍ نافعٍ صحيحٍ يبصرُه الحقَّ ويهديه الطريقَ، فلابد له أيضا من عملٍ صالحٍ يستعينُ به على قطعِ الطريقِ.
- واعلمْ أن العملَ بالعلمِ هو ثمرةُ العلمِ؛ فمن علم ولم يعملْ فقد أشبه اليهودَ الذين مثلهم الله سبحانه في القرآن بأقبح مثال كما قال الله تعالى: ]مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[ [الجمعة:5]. ومن عمِل بلا علمٍ فقد أشبه النصارى الذين أخبر اللهُ عز وجل أنهم ضالون.
- وعن مطرٍ رحِمه اللهُ قال: خيرُ العلمِ ما نفَع، وإنما ينفعُ اللهُ بالعلمِ من علِمه ثم عمِل به ،ولا ينفعُ به من علِمه ثم ترَكه ([1]).-وعن الحسنِ رحِمه اللهُ قال: تعلموا ما شئتم أن تعلموا، فلن يجازيَكم اللهُ على العلمِ حتى تعملوا؛ فإن السفهاءَ همتُهم الروايةُ، وإن العلماءَ همتُهم الرعايةُ ([2]).
فالعلمُ يهتفُ بالعملْ، فإن أجابه وإلا ارتحلْ
- إن اللهَ عز وجل مدَح العلمَ في غيرِ موضعٍ في القرآنِ وحث العبادَ عليه، فربما يكونُ العلمُ سببًا لزيادةِ درجاتِ صاحبِه، لكن السببَ الرئيسَ لدخولِ العبدِ في رحمةِ اللهِ هو العملُ؛ قال تعالى:] لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[ [الأنعام:127].وقال تعالى: ]وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[ [الأعراف:43]. وقال تعالى: ]وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[ [التوبة:121].وقال تعالى: ]الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[ [النحل:32]. وقال تعالى: ]مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[ [النحل:97].وقال تعالى: ]وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُون[ [العنكبوت:7]. وقال تعالى: ]فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[ [السجدة:17]. وقال تعالى: ]أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[ [السجدة:19]. وقال تعالى: ]لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ[ [الزمر:35].وقال تعالى: ]وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[ [الزخرف:72].وقال تعالى: إ]ِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون[ [الطور:17-19].وقال تعالى: ]إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ[ [المرسلات:41-44].
والعالِمُ سيسألُ عن عملِه بهذا العلمِ؛ قال تعالى: ]فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ[ [الحجر:92، 93]. وقال تعالى: ]وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[ [النحل:93].
إن كثيرًا من المنتسبين للعلمِ الشرعيِّ يعتقدون أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعِث بالعلمِ فقط؛ فعلى مقدارِ الكمِّ الذي تحصَّل من العلمِ يكونُ القربُ والبعدُ من منهاجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهذا الفهمُ يحتاجُ إلى تقويمٍ ؛ فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يبعثْ بالعلمِ فقط،بل هناك أشياءُ أخرى مع العلمِ لا يكملُ الاقتداءُ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم إلا بتحصيلِها؛ قال اللهُ تعالى: ]هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ [ [التوبة:33، الصف:9].
- وعن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه قال : قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَثَلُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا ؛ فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا ، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِىَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِى دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ"([3]).
النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديثِ يوضحُ أنه بعِث بشيئين؛ الهدى و العلمُ، فالعلمُ معروفٌ؛ وهو علمُ الكتابِ و السنةِ و ما يوصلُ إليهما، فما هو الهدى؟
فمما لا يخفى على كثيرٍ من طلبةِ العلمِ أن العطفَ يقتضي الاشتراكَ في الحكمِ كما أنه يقتضي المغايرةَ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه؛ بمعنى أن الهدى و العلمَ يشتركان في الحكمِ؛ وهو بعثُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بهما، وأيضًا يقتضي المغايرةَ؛ بمعنى أن العلمَ غيرُ الهدى، نعم قد يكونُ جزءًا منه -أعني أن يكونَ من بابِ عطفِ الخاصِّ على العامِّ -لكن الذي لا شكَّ فيه أنهما غيرُ متطابقان، وإلا صار الكلامُ فيه تَكرارٌ لا فائدةَ منه، أي لغوًا، و كلامُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليس فيه لغوٌ كما هو مقررٌ عند أهلِ العلمِ، فظهَر مما سبَق أن الهدى غيرُ العلمِ.
- قال ابنُ حجرٍ رحِمه اللهُ: قَوْلُه: "الْهُدَى". أَيْ: الدَّلَالَةُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْمَطْلُوبِ، و"َالْعِلْم". الْمُرَادُ بِهِ مَعْرِفَةُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ([4]).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق