عقيدته ومذهبه:
عقيدته: عقيدة الإمام ابن تيمية التي يعتقِدها هي عقيدة السلف الصالح: أهل السنة والجماعة، المتمثِّلة في القرون الثلاثة الأولى، على ما كان عليه النبيُّ محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((خير أمَّتي قرْني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))[30] ، فلا علاقة لمعتقده بشخصٍ معيَّن، ولا بمذهب معيَّن، لا حنبلي ولا غيره؛ بل بما جاء في كتاب الله - عز جل - وبما ثبَت في صحيح السنة النبوية المطهَّرة، وتفسير لما فيها بما ثبت عن الصحابة الكِرام، وعن تابعيهم بإحسانٍ من تلك القُرون الثلاثة الفاضلة، ومع أنَّ إمامه في الفقه هو الإمام أحمد بن حنبل[31]، فإنَّ الإمام ابن تيمية لم يَدْعُ أحدًا قط إلى الْتزام العقيدة على منهج الحنابلة؛ بل كان يدعو إلى الْتزام معتقد السلف الصالح، وقد أبان ذلك هو بنفسه إذ قال: "أما الاعتقاد، فإنَّه لا يُؤخذ عني ولا عمَّن هو أكبرُ مني؛ بل يؤخذ عن الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وما أجمع عليه سلفُ الأمَّة، فما كان في القرآن وجَب اعتقادُه، وكذلك ما ثبَت في الأحاديث الصحيحة، مثل صحيحي البخاري ومسلم... وكان يَرِدُ عليَّ مِن مصر وغيرها مَن يسألني عن مسائلَ في الاعتقاد أو غيره، فأُجيبه بالكتاب والسُّنة، وما كان عليه سَلفُ الأمة"[32]، وقد كتَب الإمام ابن تيمية هذه العقيدةَ التي يَدين اللهَ بها حينما طُلِب منه أن يَكتبها، فكتبَها فيما بيْن الظُّهر والعصر[33]، وهذه العقيدة هي:
الإيمانُ بالله وملائكته، وكُتبه ورسله، والبعْث بعد الموت، والإيمان بالقَدر خيره وشرِّه، وإثبات معيَّة الله لخلْقه، وأنها لا تُنافي علوَّه فوقَ عرْشه، ورؤية المؤمنين لربِّهم يومَ القيامة.
ومِن الإيمان بالله تعالى: الإيمانُ بكلِّ الأسماء والصفات الواردة في الكتاب وصحيح السنة، ثم الإيمان بالقُرآن الكريم، وأنَّه كلام الله، منزَّل، غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأنَّ الله تكلَّم به حقيقة، وأنَّ هذا القرآن الذي أنزله على محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو كلام الله حقيقة، لا كلام غيره.
ثم الإيمان باليوم الآخِر، وما يكون فيه من أمورٍ بعد هذه الفِتنة، إمَّا نعيم وإمَّا عذاب، إلى أن تقومَ القيامة الكبرى، فتُعاد الأرواح إلى الأجساد، ثم تقوم القيامة، فيقوم الناس مِن قبورهم لربِّ العالمين حفاةً عراةً غرلاً، وتدنو منهم الشمس، ويُلجمهم العرق، وتُنصب الموازين، فتوزَن بها أعمالُ العباد، وتنشَر الدواوين، ثم الإيمان بالحِساب.
والإيمان بحوْض النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي من شرِب منه شربةً لا يظمأ بعدها أبدًا، والإيمان بالصِّراط، وهو منصوبٌ على متْن جهنم: وهو الجِسر الذي بين الجَنَّة والنار، يمرُّ الناس على قدْر أعمالهم، فمَن مرَّ على الصِّراط، دخَل الجنة، فإذا عبَرُوا عليه وقفوا على قنطرة بيْن الجنة والنار، فيُقتص لبعضهم مِن بعض، فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا، أُذِن لهم في دخول الجَنَّة، وأوَّل مَن يَستفتح بابَ الجنة محمَّدٌ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأوَّل مَن يدخل الجنة مِن الأمم أمَّتُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في القيامة ثلاثُ شفاعات:
الأولى: يشفع في أهْل الموقف حتى يُقضى بينهم، بعد أن يتراجع الأنبياءُ عنها؛ آدم فمَن بعده، حتى تنتهي إليه - صلَّى الله عليه وسلَّم.
الثانية: يشفع في أهل الجَنَّة أن يدخلوها.
الثالثة: يشفع فيمَن استحقَّ النار، وهذه الشفاعة لـه ولسائرِ النبيِّين والصِّدِّيقين وغيرهم، فيشفع فيمَن استحق النار ألاَّ يدخلها، ويشفع فيمَن دخلها أن يخرج منها.
كما يعتقد أنَّ الإيمان قولٌ وعمل، يَزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهو متَّبع لمعتقد أهل السُّنة والجماعة؛ الفرْقة الناجية، في عدم تكفير أهْل القِبلة بمُطلق المعاصي والكبائر؛ بل الأُخوَّة الإيمانية ثابتةٌ مع المعاصي.
ومما يعتقده: وجوب سلامة القلْب واللِّسان لأصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويتولَّى آل بيت رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويحبُّهم، كما يتولَّى أزواج رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمهات المؤمنين، وأنهنَّ أزواجه في الدنيا وفي الآخرة، كما أنَّه يُمسك عما شجَر بين الصحابة - رضي الله عنهم - لأنَّ الآثار المروية في مساويهم: منها ما هو كذب، ومنها ما قد زِيدَ فيه ونقص وغُيِّر عن وجهه.
والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون مُصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، مع الاعتقاد بأنَّ كل واحد من الصحابة ليس بمعصومٍ عن كبائر الإثم وصغائره، لكن لهم من السوابق والفضائل ما يُوجِب مغفرةَ ما يصدر منهم إنْ صدر، حتى إنهم يُغفر لهم من السيئات ما ليس لمن بعدَهم، أو بتوبة أو شفاعة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي هم أحقُّ الناس بشفاعته، أو ابتُلي ببلاء في الدنيا كفِّر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحقَّقة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين؟!
وأنَّهم خيرُ الخلْق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمَّة التي هي خيرُ الأمم، وأكرمُها على الله.
كما يؤمِن بكرامات الأولياء، وما يُجري الله على أيديهم من خوارقِ العادات، في أنواع العلوم والمكاشفات، إضافةً إلى إيمانه بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على ما تُوجبه الشريعة، وكذلك يرى إقامةَ الحج والجهاد والجُمع والأعياد مع الأمراء؛ أبرارًا كانوا أو فجَّارًا.
وهو تابع لأهل السُّنة بأنهم يَدينون بالنصيحة للأمَّة، والصبر عند البلاء، والشُّكر عند الرخاء، والرضا بمرِّ القضاء، ويدْعون إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، والعفو عمَّن ظلم، ويدْعون إلى برِّ الوالدين، وصِلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين، والبُعد عن الأخلاق السيِّئة؛ كل ذلك اتباعًا للكتاب والسنة، وتطبيقًا للشريعة التي بُعِث بها محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وأما مذهبه، فقد نشَأ وتربَّى وتعلَّم على أصول المذهب الحنبلي، فأبوه وجَدُّه - بل أسرته - أعلامُ الحنابلة في دمشق والشام، ولكنَّه لم يقتصرْ في دراسته على المذهب الحنبلي؛ بل درس المذاهب الفقهية الأخرى، ثم آل أمره في آخر حياته إلى عدم التقيُّد بمذهب معيَّن، بل كان يُفتي بما يترجَّح له دليلُه، ومع ذلك فلم يكن يتعصَّب لإمام أو شيخ أو مذهب، بل يرى أنه مِن اليُسر اتباع الناس لأيِّ رأي من آراء العلماء؛ لهذا لما سأله تلميذُه الحافظ البزار تأليفَ نصٍّ في الفقه يجمع اختياراتِه وترجيحاتِه؛ ليكون عمدةً في الإفتاء، فقال له ما معناه: "الفروع أمرها قريب، ومَن قلَّد - المسلم - فيها أحدَ العلماء المقلَّدين، جاز لـه العمل بقوله، ما لم يتيقن خطأه"[34].
وكان يذكُر أنَّ اختلاف العلماء رحمةٌ واسعة، فقال: "ولهذا كان بعضُ العلماء يقول: إجماعهم حُجَّة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة"، وكان عمر بن عبدالعزيز يقول[35]: ما يَسرُّني أنَّ أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يختلفوا؛ لأنَّهم إذا أجمعوا على قول فخالفَهم رجلٌ كان ضالاًّ، وإذا اختلفوا فأخَذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا، كان في الأمْر سَعة، وكذلك قال غيرُ مالك من الأئمَّة: ليس للفقيه أن يحملَ الناس على مذهبه [ثم نقَل عن بعض الشافعية قولَ بعضهم:] وليس لأحدٍ أن يُلزم الناس باتِّباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحُجج العلمية، فمَن تبيَّن له صحَّةُ أحد القولين تبِعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكارَ عليه"[36]، ومع هذا هو مجِلٌّ للأئمة، فيحترمهم ويدافع عنهم، وينهى عن الطعن فيهم، وأنهم وإنِ اختلفوا في مسائل، فهذا الخلاف إنما نشأ عن اجتهادِ كلِّ واحد منهم، ثم أرجع أسباب الاختلاف إلى أعذار ثلاثة، هي[37]:
الأول: عدم اعتقاده [أي: العالِم] أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قاله.
الثاني: عدم اعتقاده إرادةَ تلك المسألة بذلك القول.
الثالث: اعتقاده أنَّ ذلك الحُكم منسوخ، ثم فصَّل القول على هذه الأعذار الثلاثة في رسالته: "رفْع الملام عن الأئمَّة الأعلام".
أخلاقه وسجاياه وبعض أقواله:
الكلام على أخلاق الإمام ابن تيميَّة وسجاياه، إنَّما هو كلامٌ على الآداب الإسلامية التي تجلَّت في شخصِه، وبرزت أخلاقه خلالَ اتِّباعه وتمسكه بالكتاب والسنة، فكان يُطبِّق ما فيها، حتى ظهرَ عليه في معاملاته وحُسْن عشرته.
والكلام على سجاياه يشمل الخِلْقية والخُلُقية: أما سجاياه الخِلقية، فيَصفه مؤرِّخ الإسلام الإمام الذهبي بقوله: "كان أبيضَ، أسودَ الرأس واللحية، قليلَ الشَّيْب، جَهْوَرِيَّ الصوت، شعره إلى شحمة أذنيه، فصيح اللِّسان، أعين كأنَّ عينيه ناطقتان، رَبْعة من الرِّجال، بعيد ما بيْن المنكبين، تعتريه حدَّة، لكن يقهرها بالحِلم"[38].
[31] الإمام المبجَّل إمام أهل السُّنة والجماعة، الزاهد الصابر، الإمام أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل، إليه يُنسب المذهب الحنبلي، له كتب متعدِّدة قيِّمة، منها: المسند، والزهد، والورع، والأشربة، توفي سنة 241هـ.
[32] الإمام ابن عبدالهادي، العقود الدرية، (ص: 170) بتصرف، الإمام ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (3/161).
[33] الإمام ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (3/194).
[34] الحافظ البزار، الأعلام العلية، (ص: 33) بتصرف.
[35] الإمام ابن قدامة المقدسي في مقدمة كتابه المغني (1/64)، وفي لمعة الاعتقاد، (ص: 178).
[36] الإمام ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (30/80) بتصرف.
[37] الإمام ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (21/290).
[38] الشيخ محمد بن شاكر الكتبي، فوات الوفيات، (1/75)، الإمام ابن حجر العسقلاني، الدرر الكامنة، (1/151)، الإمام ابن الوردي، تتمة المختصر، (ص: 408)، 412)، الإمام ابن كثير، البداية والنهاية، (14/137).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق