بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 31 أكتوبر 2010

العمل بالعلم (2)

- وبالرغمِ من أن اللهَ تعالى مدَح العلمَ وأهله في غيرِ موضعٍ كما تقدم، إلا أننا نلحظُ أن لفظَ" الهدى" هو المستخدمُ في القرآنِ الكريمِ لبيانِ الغايةِ من بعثةِ الأنبياءِ وإنزالِ الكتبِ؛ قال تعالى:
{
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ[ [البقرة:2].وقال تعالى: ]قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[ [البقرة:38].وقال تعالى: ]شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ[ [البقرة:185].
وقال تعالى: ]الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ[
[آل عمران:1-4].وقال تعالى: ]إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[ [المائدة:44]. وقال تعالى: ]وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ[ [المائدة:46]. وقال تعالى: ]أولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ[ [الأنعام:90]. وقال تعالى: ]وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[ [الأعراف:52].
وقال تعالى: ]وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا[ [الإسراء:2].
فظهَر مما سبَق أن القرآنَ كتابُ هدايةٍ نزَل لهدايةِ البشرِ، ومن طرقِ هذه الهدايةِ هي تعلمُ آياتِه و أحكامِه،ومن هنا تظهرُ لنا حقيقةُ رسالةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، يؤكدُ ذلك دعوةُ أبي الأنبياءِ إبراهيمَ عليه السلام حيث قال:  ]رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[ [البقرة:129]. فإبراهيمُ عليه السلام  دعا اللهَ عز وجل أن يبعثَ من مكةَ رسولا تتحددُ معالمُ رسالته فيما يلى؛يتلو عليهم آيَ القرآنِ،يعلمُهم الكتابَ و الحكمةَ،يزكيهم.فاستجاب اللهُ عز وجل دعوةَ إبراهيمَ عليه السلام؛ قال تعالى: ]هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [ [الجمعة:2].
ولما كانت التزكيةُ لا تحصلُ إلا بالتوحيدِ وإخلاصِ العبادةِ للهِ وحده جاءت الرسلُ والأنبياءُ بدعوةِ أقوامِهم إلى هذا الأصلِ العظيمِ وتذكيرِهم به؛ قال تعالى: ]وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [ [النحل:36]. والتوحيدُ من أعظمِ الركائزِ التي قامت عليها دعوةُ الأنبياءِ من أولِهم إلى آخرِهم، وكذلك التحذيرُ من الشركِ وبيانُ أثرِه السيئِ، فهذا أعظمُ ما يحتاجُه العبادُ في تزكيةِ نفوسِهم وأرواحِهم ومن أعظمِ ما ينفعُهم في دينِهم ودنياهم.
-ومن هنا يظهرُ لنا أن دعوةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لم تكنْ دعوةً علميةً فقط، بل إنها دعوةٌ عمليةٌ تطبيقيةٌ، فلقد كان من الممكنِ أن ينزلَ القرآنُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم جملةً واحدةً ينزلُ به جبريلُ عليه السلام إلى الأرضِ مرتبًا ومفهرسًا فيسلمُه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ثم يسلمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بدورِه نسخةً من هذا الكتابِ إلى صناديدِ قريشٍ يقرءونه و يتدراسونه، ولا بأسَ أن يشرحَ لهم ما يستشكلُ عليهم منه في درسٍ أو عدةِ دروسٍ وتنتهي القضيةُ عند هذا الحدِّ، لكن شيئًا من ذلك لم يحدثْ، فالقرآنُ نزَل منجمًا مفرقًا على الوقائعِ و الأحداثِ؛ قال تعالى: ]وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا[ [الإسراء:106]. وقال تعالى:  ]وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا[ [الفرقان:32]. فالعلةُ من تنجيمِ القرآنِ كما هو موضحٌ في الآيتين هو قراءتُه على الناسِ على مكثٍ ليتربوا على هذا المنهجِ الربانيِّ الجديدِ، تلك التربيةُ التي حوَّلت هؤلاء العربَ الأجلافَ رعاةَ الإبلِ و الغنمِ إلى دعاةٍ و قادةٍ للشعوبِ و الأممِ .
- إن القرآنَ نزَل ليكونَ واقعًا عمليًّا مطبقًا على الأرضِ، لا أن يكونَ كتابًا نظريًّا يدرسُ في أروقةِ الجامعاتِ وحلقاتِ الدروسِ بعيدًا كلَّ البعدِ عن التطبيقِ العمليِّ؛ قال تعالى: ]الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْـحَمِيدِ [ [إبراهيم :1].وقال I: ]وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ[ [الشورى:52].فهو منهجٌ للحياةِ كلِّها، وهذا ما فهِمه جيلُ الصحابةِ الأوائلِ ووجَدوه متجسدًا أمامَهم في شخصِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ فعن عائشةَ رضِي اللهُ عنها أنها سئِلت عن خُلُقِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فقالت: ألا تقرءون القرآن؟ كان خلقُه القرآنَ([1]).
- فلو كانت القضيةُ قضيةَ علمٍ وفقط لكان اليهودُ أولى الناسِ بالحقِّ ؛ فهم أعلمُ الناسِ بالدينِ الحقِّ ؛ قال تعالى: ]الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [ [البقرة:146].وقال تعالى: ]الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ ۘ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ[ [الأنعام:20]. بل سماهم اللهُ تعالى أهلَ الكتابِ إشارةً لما عندهم من العلمِ المكتوبِ، لكنه علمٌ خاوٍ بعيدٌ عن التطبيقِ، مثلُهم في القرآنِ كما قال تعالى: ]مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[ [الجمعة:5].فأهلُ الكتابِ عندهم علمٌ، لكنهم فقَدوا الهدايةَ، لذلك أمِرنا أن نقرأَ في كلِّ ركعةٍ من صلواتِنا: ]اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ[ [الفاتحة:6، 7 ]. فالعلمُ الذي لا يبلغُ بصاحبِه إلى اللهِ ليس علمًا، بل هو عينُ الجهلِ، فالمقصودُ الأعظمُ من العلمِ هو العملُ به والتقربُ إلى اللهِ تعالى بمقتضى هذا العلمِ، وليس المقصودُ أن يكونَ الإنسانُ مخلاةً للعلومِ، فكم من إنسانٍ حوى من العلومِ ما لا يعلمُه إلا اللهُ، فهو يسردُ الأدلةَ سردًا، ويؤصلُ المسائلَ تأصيلًا، لكنه سيئُ الخلقِ قليلُ الأدبِ، فهذا قد يكون سببًا في إعراضِ الناسِ عن الهدى وكراهيتِهم للحقِّ، ورأيت رجالًا ليس عندهم من العلمِ إلا ما يبصرُهم الطريقَ، لكنهم على خلقٍ حسنٍ وأدبٍ جمٍّ، تراهم مشمرين عن ساعدِ الجدِّ، مجتهدين في العملِ تقربًا إلى اللهِ تعالى، داعين إليه، مجاهدين في سبيلِه، مقيمين للسنةِ، مميتين للبدعةِ، أسبقَ الناسِ إلى الخيرِ وأبعدَهم عن الشرِّ، يُهْتَدى بِسَمْتِهِم وإن كانوا صامتين، نعم لا تفلحُ دعوةٌ إلا إذا قامت على أساسٍ من العلمِ، لكن العلمَ وحده غيرُ كافٍ للوصولِ، ألم تسمعْ قولَ اللهِ تعالى: ]وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[ [الأعراف:175، 176]. انظرْ كيف انسلخ من العلمِ الذي تعِب في تحصيلِه كما تنسلخُ الحيةُ من جلدِها، ومعلومٌ أن العلمَ لا يُمحى من الرأسِ بين عشيةٍ وضحاها، فكان المقصودُ من الانسلاخِ هنا هو عدمُ العملِ بالعلمِ والإعراضُ عن تطبيقِه؛ قال تعالى: ] أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ[ [الجاثية:23]. فهنا أثبت اللهُ عز وجل وجودَ العلمِ، لكن أثبت أيضًا وجودَ الضلالِ، فقد يجتمعان في الشخصِ الواحدِ، وقد يرتفعان، وقد يوجدُ أحدُهما ويرتفعُ الآخرُ.

فالحاصلُ أن العلمَ وحده غيرُ كافٍ للوصولٍ، وأن من حقَّق العلمَ فقد حقَّق جانبًا كبيرًا  من الجوانبِ التي بعِث بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، ويبقى عليه تحقيقُ الجانبِ الثاني ؛ وهو العملُ به والدعوةُ إليه.




([1])أخرجه أحمد (24079)، والبخاري في الأدب المفرد (308) .