وعن أبي الحسنِ علىِّ بنِ أحمدَ الخوارزميِّ رحِمه اللهُ قال: سمِعت عبدَ الرحمنِ-يعني ابنَ أبي حاتمٍ- يومًا يقولُ: لا يُستطاعُ العلمُ براحةِ الجسمِ . وقال: كنا بمصرَ سبعةَ أشهرٍ فلم نأكلْ فيها مرقةً؛ وذلك أنا كنا نغدو بالغدواتِ إلى مجلسِ بعضِ الشيوخِ، ووقتِ الظهرِ إلى مجلسٍ آخرَ، ووقتِ العصرِ إلى مجلسٍ آخرَ، ثم بالليلِ للنسخِ والمعارضةِ، فلم نتفرغْ نصلحْ شيئًا، وكان معي رفيقٌ خرسانيٌّ أسمعُ في كتابِه ويسمعُ في كتابي، فما أكتبُ لا يكتبُ، وما يكتبُ لا أكتبُ، فغَدونا يومًا إلى مجلسِ بعضِ الشيوخِ، فقال: هو عليلٌ. فرجَعنا فرأينا في طريقِنا حوتًا يكونُ بمصرَ، يُشقُّ جوفُه فيخرجُ منه أصفرُ، فأعجبنا، فلما صرنا إلى المنزلِ حضَر وقتُ مجلسِ بعضِ الشيوخِ، فلم يمكنا إصلاحُه، ومضينا إلى المجلسِ، فلم نزلْ حتى أتى عليه ثلاثةُ أيامٍ كاد أن يتغيرَ، فأكلناه نيئًا. فقيل له: كنتم تعطونه لمن يشويه ويصلحه. قال: من أين كان لنا فراغٌ؟([2])
والصبر على الطلب هو الذي حمل العلماء على انفاق كل مالهم على التحصيل والعلم حتى أفلسوا.
- عن ابنِ عمٍّ ليحيى بنِ معينٍ رحِمهما اللهُ قال: كان معينٌ على خراجِ الريِّ فمات، فخلَف لابنِه يحيى ألفَ ألفِ درهمٍ وخمسين ألفَ درهمٍ، فأنفقه كلَّه على الحديثِ، حتى لم يبقَ له نعلٌ يلبسُه([3]).
- وعن أبي الربيعِ رحِمه اللهُ قال: قال لي شعبةُ: لزِمتَ سوقَك فأفحلتَ وأنجحتَ، ولزمتُ أنا الحديثَ فأفلستُ([4]).
- وعن سفيانَ بنِ عيينةَ رحِمه اللهُ قال: سمِعت شعبةَ يقولُ: من طلَب الحديثَ أفلس؛ لقد أفلست حتى بعت طستًا لأمي بسبعةِ دنانيرَ([5]).
- تريدين لقيانَ المعالي رخيصةً ولابد دون الشهدِ من إِبَرِ النحلِ
والصبر على الطلب عاقبته إلى خير فالله لا يضيع من خرج في طلب العلم أبدا فسرعان ما يتبدل حالهم ويعلوا ذكرهم ويأتيهم رزقهم .
- قال ابنُ الجوزيِّ رحِمه اللهُ: ولقد تأمَّلت نفسي بالإضافةِ إلى عشيرتي الذين أنفقوا أعمارَهم في اكتسابِ الدنيا، وأنفقت زمنَ الصبا والشبابِ في طلبِ العلمِ، فرأيتني لم يفتْني مما نالوه إلا ما لو حصَل لي ندِمت عليه، ثم تأمَّلت حالي؛ فإذا عيشي في الدنيا أجودُ من عيشِهم، وجاهي بين الناسِ أعلى من جاهِهم، وما نلته من معرفةِ العلمِ لا يقاومُ، فقال لي إبليسُ: ونسيت تعبَك وسهرَك. فقلت له: أيُّها الجاهلُ، تقطيعُ الأيدي من قبَلِ النسوةِ لا وقْعَ له عند رؤيةِ يوسفَ ([7]).
- وقال بعضُهم:
أرى العلمَ في جـوعٍ وذلٍّ وعِفّةٍ وبُعدٍ عن الآباءِ والأهلِ و الوطنْ
فلو كانَ كسبُ العلمِ أسهلَ حرفةٍ لما كان ذو جَهلٍ على الأرضِ في الزمنْ
ذكـاءٌ وحِـرْصٌ وافتقارٌ وغربةٌ وتلقينُ أسْتُاذٍ وطُـوْلُ زَمانِ
لو كـانَ هذا العلمُ يحصُلُ بالمُنى لما كانَ يبقى في البريَةِ جـاهلُ
اجْهدْ ولا تكسَلْ ولا تكُ غافلًا فندامــةُ العُقْبى لمن يتكـاسلُ
أُطْلُبْ ولا تضجَرْ من مَطْلَبٍ فآفةُ الطــالبِ أنْ يضْـجرا
أمــا ترى الحَبْلَ بِتَكرارِه في الصَخْرةِ الصمّــاءِ قَد أثّرا
- فاصبرْ وصابرْ، فلئن كان الجهادُ ساعةً من صبرٍ، فصبرُ طالبِ العلمِ إلى نهايةِ العمرِ.
- تنبيهٌ ليس من الصبرِ الانقطاعُ للطلبِ وتركُ التكسبِ لمن عنده أولاد و ليس لهم عائلٌ غيره و ليس عندهم ما يكفيهم، والأصلُ في ذلك؛
- وعن عبدِ الرحيمِ بنِ سليمانَ الرازيِّ قال: كنا عند سفيانَ الثوريِّ، فكان إذا أتاه الرجلُ يطلبُ العلمَ سأله: هل لك وجهُ معيشةٍ؟ فإن أخبره أنه في كفايةٍ أمَره بطلبِ العلمِ، وإن لم يكنْ في كفايةٍ أمَره بطلبِ المعاشِ([14]).
- وعن عبيدِ بنِ جنادٍ رحِمه اللهُ قال: ينبغي للرجلِ أن يعرفَ من أين مطعمُه ،وملبسُه، ومسكنُه، وكذا وكذا ، ثم يطلبُ العلمَ ([15]).
- وعن الحكمِ بنِ هشامٍ العقيليِّ رحِمه اللهُ قال: من أغرق في الحديثِ فليُعدَّ للفقرِ جلبابًا، فليأخذْ أحدُكم من الحديثِ بقدرِ الطاقةِ ولْيحترفْ؛ حذرًا من الفاقةِ([16]).
- أما من لم يكنْ متزوجًا فيستحبُّ له أن ينتظرَ حتى يشتدَّ عودُه في الطلبِ؛
- قال الخطيبُ البغدادىُّ رحِمه اللهُ: إذا كان الطالبُ للحديثِ عزبًا فآثر الطلبَ على الاحترافِ فإن اللهَ تعالى يعوضُه ويأتيه بالرزقِ من حيث لا يحتسبُ ([17]).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق