بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 10 ديسمبر 2010

الصبر على الطلب (2)

الصبرُ على الطلبِ هو الذي حدا بأبي هريرةَ t راويةِ السنةِ أن يكونَ له قصبُ السبقِ في العلمِ والحفظِ؛ إذ آثر الزهدَ والجوعَ على تكسبِ المعاشِ حتى لا يفوتَه شىءٌ من علمِ النبوةِ؛
- فعن أبي هريرةَ t قال: يَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ. وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ، وَيَقُولُونَ: مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لاَ يُحَدِّثُونَ مِثْلَ أَحَادِيثِهِ. وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَكُنْتُ امْرَءًا مِسْكِينًا أَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ r عَلَى مِلْءِ بَطْنِي؛ فَأَحْضُرُ حِينَ يَغِيبُونَ، وَأَعِي حِينَ يَنْسَوْنَ، وَقَالَ النَّبِيُّ r يَوْمًا:" لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ مِنْكُمْ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي هَذِهِ ثُمَّ يَجْمَعَهُ إِلَى صَدْرِهِ فَيَنْسَى مِنْ مَقَالَتِي شَيْئًا أَبَدًا". فَبَسَطْتُ نَمِرَةً لَيْسَ عَلَيَّ ثَوْبٌ غَيْرَهَا، حَتَّى قَضَى النَّبِيُّ r مَقَالَتَهُ، ثمَّ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ، مَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَتِهِ تِلْكَ إِلَى يَوْمِي هَذَا، وَاللَّهِ، لَوْلاَ آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا أَبَدًا: ]إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ[ إِلَىقَوْلِهِ]الرَّحِيمُ[ [البقرة:159،160]([1]).
- والصبرُ على الطلبِ هو الذي رفَع ابنَ عباسٍ t على أقرانِه فاحتاج الناسُ إلى علمِه بعد وفاةِ الكثيرِ من الصحابةِ؛
- فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ t قَالَ: لَمَّا تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ r قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا فُلاَنُ، هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ النَّبِىِّ r؛ فَإِنَّهُمُ الْيَوْمَ كَثِيرٌ. فَقَالَ: وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَتَرَى النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إِلَيْكَ وَفِى النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ r مَنْ تَرَى؟ فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَأَقْبَلْتُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ، فَإِنْ كَانَ لَيَبْلُغُنِى الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ، فَآتِيهِ وَهُوَ قَائِلٌ، فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِى عَلَى بَابِه،ِ فَتَسْفِى الرِّيحُ عَلَى وَجْهِى التُّرَابَ، فَيَخْرُجُ فَيَرَانِى فَيَقُولُ: يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، مَا جَاءَ بِكَ؟ أَلاَ أَرْسَلْتَ إِلَىَّ فَآتِيَكَ؟ فَأَقُولُ: لاَ، أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيَكَ. فَأَسْأَلُهُ عَنِ الْحَدِيثِ. قَالَ: فَبَقِىَ الرَّجُلُ حَتَّى رَآنِى وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَىَّ، فَقَالَ: كَانَ هَذَا الْفَتَى أَعْقَلَ مِنِّى([2]).
والصبر على الطلب هو الذي حمل ابن المبارك رحمه الله على نسيان النوم والراحة من أجل مذاكرة الحديث
- عن علىِّ بنِ الحسنِ بنِ شقيقٍ رحِمه اللهُ: كنت مع عبدِ اللهِ بنِ المباركِ في المسجدِ في ليلةٍ شتويةٍ باردةٍ، فقمنا لنخرجَ، فلما كان عند بابِ المسجدِ ذاكرني بحديثٍ أو ذاكرته بحديثٍ، فما زال يذاكرُني وأذاكرُه حتى جاء المؤذنُ فأذَّن لصلاةِ الصبحِ ([3]).
والصبر على الطلب هو الذي حمل علماء الإسلام وأئمة الدين على تحمل الجوع والفقر في سبيل تحصيل العلم حتى علا ذكرهم وازدانت بهم كتب التراث وترحم الناس عليهم في كل زمان ومكان.
- عن أبي العباسِ البكرىِّ رحِمه اللهُ قال: جمَعت الرحلةُ بين محمدِ بنِ جريرٍ، ومحمدِ بنِ إسحاقَ بنِ خزيمةَ، ومحمدِ بنِ نصرٍ المروزيِّ، ومحمدِ بنِ هارونَ الرويانيِّ بمصرَ، فأرملوا ولم يبقَ عندهم ما يقوتُهم وأضرَّ بهم الجوعُ، فاجتمعوا ليلةً في منزلٍ كانوا يأوون إليه، فاتفق رأيُهم على أن يستهِموا ويضرِبوا القرعةَ؛ فمن خرَجت عليه القرعةُ سأَل لأصحابِه الطعامَ، فخرَجت القرعةُ على محمدِ بنِ إسحاقَ بنِ خزيمةَ، فقال لأصحابِه: امهلوني حتى أتوضأَ وأصليَ صلاةَ الخيرةِ. قال: فاندفع في الصلاةِ، فإذا هم بالشموعِ، وخَصِىٌّ من قبلِ والي مصرَ يدقُّ البابَ، ففتحوا البابَ، فنزَل عن دابتِه فقال: أيُّكم محمدُ بنُ نصرٍ؟ فقيل: هو هذا. فأخرج صرةً فيها خمسون دينارًا فدفَعها إليه، ثم قال: أيُّكم محمدُ بنُ جريرٍ؟ فقالوا: هو ذا. فأخرج صرةً فيها خمسون دينارًا فدفَعها إليه، ثم قال: أيُّكم محمدُ بنُ هارونَ؟ فقالوا: هو ذا. فأخرج صرةً فيها خمسون دينارًا فدفَعها إليه، ثم قال: أيُّكم محمدُ بنُ إسحاقَ بنِ خزيمةَ؟ فقال: هو ذا يصلي. فلما فرَغ دفَع إليه الصرةَ وفيها خمسون دينارًا، ثم قال: إن الأميرَ كان قائلًا بالأمسِ فرأى في المنامِ خيالًا قال: إن المحامدَ طوَوْا كشحَهم جياعًا. فأنفذ إليكم هذه الصرارَ، وأقسَم عليكم: إذا نفَدت فابعثوا إلىَّ أمدَّكم ([4]).


([1])أخرجه أحمد (7275)، والبخاري (2350)،ومسلم (2492)،والترمذي (3835)، وابن ماجه (262)، والنسائي فى الكبرى (5868)، وابن حبان (7153). وعند الترمذي مقتصرا على قصة الثوب،وعند ابن ماجه مقتصرا على ذكر الآيتين.
([2]) أخرجه ابن سعد 2/368،367، والدارمى (590)، والفسوى فى المعرفة والتاريخ 1/298، والحاكم 1/107،106، والبيهقى فى المدخل (673) من طريق يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قال: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ ، عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عن ابن عباس به. وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري وَهُوَ أَصْلٌ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ وَتَوْقِيرِ الْمُحَدِّثِ.
([3]) أخرجه الخطيب فى الجامع (1843) من طريق على بن الحسن بن شقيق .
([4]) أخرجه الخطيب فى تاريخه 2/164 ، 165 -ومن طريقه ابن عساكر فى تاريخه 52/193،192- من طريق أبي العباس البكرى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق