بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 5 نوفمبر 2010

من صفات طالب العلم اجتناب أمراض القلب وسيئ الأخلاق


كما أن على طالبِ العلمِ أن يحليَ ظاهرَه بسنةِ رسولِ اللهِ r في أحوالِه كلِّها وبمجانبةِ البدعِ فعليه أيضًا أن يطهرَ قلبَه من كلِّ مرضٍ من شأنِه أن يحجزَ عنه الحفظَ و الفهمَ ويُذهبَ نورَ العلمِ و بركتَه؛ ومن ذلك الحسدُ، والعجبُ، والسمعةُ، والبخلُ، والخبثُ، والبطرُ، والطمعُ، والفخرُ، والخيلاءُ، والتنافسُ في الدنيا، والمباهاةُ بها، والمداهنةُ، والتزينُ للناسِ، وحبُّ المدحِ بما لم يفعلْ، والعمى عن عيوبِ النفسِ والاشتغالُ عنها بعيوبِ الخلقِ، والحميةُ والعصبيةُ لغيرِ اللهِ ورسولِه، والرغبةُ والرهبةُ لغيرِ اللهِ، والغيبةُ، والنميمةُ، والبهتانُ، والكذبُ، والفحشُ في القولِ، واحتقارُ الناسِ ولو كانوا دونه، وغيرُها من الأخلاقِ الذميمةِ، والقلبُ إذا صلُح انقادت له الأعضاءُ وتهيئت لقبولِ العلمِ؛
- فعن النعمانِ بنِ بشيرٍ t، أن رسولَ اللهَ r قال: "إن في الجسدِ مضغةً إذا صلُحت صلُح الجسدُ كلُّه، وإذا فسَدت فسَد الجسدُ كلُّه؛ ألا وهي القلبُ"([1]).
- قال الشافعيُّ رحِمه اللهُ([2]):
شكَوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حفظي                        فأرشدني  إلى  تركِ المعاصي
وأخبرني بأن العلمَ  نـــورٌ                         ونورُ اللهِ لا يُهدى لعاصـي
  وفيما يلي أركزُ على مرضين من أمراضِ النفوسِ؛ وهما الحسدُ والعجبُ، منبهًا بهما على الباقي، ومن أراد المزيدَ فعليه مراجعةُ كتبِ الرقاقِ والزهدِ
المرضُ الأولُ: الحسدُ
 - قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحِمه اللهُ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْحَسَدَ هُوَ الْبُغْضُ وَالْكَرَاهَةُ لِمَا يَرَاهُ مِنْ حُسْنِ حَالِ الْمَحْسُودِ، وَهُوَ نَوْعَانِ؛
أَحَدُهُمَا: كَرَاهَةٌ لِلنِّعْمَةِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، فَهَذَا هُوَ الْحَسَدُ الْمَذْمُومُ، وَإِذَا أَبْغَضَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَأَلَّمُ وَيَتَأَذَّى بِوُجُودِ مَا يبْغضُهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَرَضًا فِي قَلْبِهِ وَيَلْتَذُّ بِزَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ نَفْعٌ بِزَوَالِهَا، لَكِنَّ نَفْعَهُ زَوَالُ الْأَلَمِ الَّذِي كَانَ فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ الأَلَمَ لَمْ يَزُلْ إلا بِمُبَاشَرَةٍ مِنْهُ، وَهُوَ رَاحَةٌ وَأَشَدُّهُ، كَالْمَرِيضِ الَّذِي عُولِجَ بِمَا يُسَكِّنُ وَجَعَهُ وَالْمَرَضُ بَاقٍ؛ فَإِنَّ بُغْضَهُ لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ مَرَضٌ، فَإِنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ قَدْ تَعُودُ عَلَى الْمَحْسُودِ وَأَعْظَمَ مِنْهَا، وَقَدْ يَحْصُلُ نَظِيرُ تِلْكَ النِّعْمَةِ لِنَظِيرِ ذَلِكَ الْمَحْسُودِ، وَالْحَاسِدُ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ؛ لَكِنَّ نَفْسَهُ تَكْرَهُ مَا أُنْعِمَ بِهِ عَلَى النَّوْعِ، وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ. فَإِنَّ مَنْ كَرِهَ النِّعْمَةَ عَلَى غَيْرِهِ تَمَنَّى زَوَالَهَا بِقَلْبِهِ.
والنَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَكْرَهَ فَضْلَ ذَلِكَ الشَّخْصِ عَلَيْهِ، فَيُحِبَّ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ، فَهَذَا حَسَدٌ، وَهُوَ الَّذِي سَمَّوْهُ الْغِبْطَةَ، وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ r حَسَدًا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ:"لَا حَسَدَ إلا فِي اثْنَتَيْنِ؛ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ". هَذَا لَفْظُ ابْنِ مَسْعُودٍ([3])، وَلَفْظُ ابْنِ عُمَرَ:"رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ فِي الْحَقِّ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ"([4]).
فتلخص مما سبق أن الحسد منه مذموم ومنه محمود فإذا أطلق لفظ الحسد فهو عائد - غالبا - على المذموم أما المحمود فهو الغبطة وغالبا لا يطلق عليه الحسد إلا مقيدا.
- والحسدُ أولُ ذنبٍ عُصِى اللهُ به فى السماءِ؛ قال تعالى: ] وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [ [الكهف:50]. وقال تعالى: ]قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ[ ]الأعراف:12[.وهو أولُ ذنبٍ عُصِي اللهُ به في الأرضِ؛ قال تعالى: ] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [ [المائدة:27].وكاد أن يقتلَ يوسفَ u إذ حسَده إخوتُه؛ كما قال تعالى: ]إذ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ [ [يوسف:8، 9].وهو السببُ في صدِّ الكفارِ من اليهودِ والنصارى عن سبيلِ اللهِ؛ قال تعالى ] وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [ [البقرة:109].
بل هو السببُ في كفرِ اليهودِ أصلًا؛
- قال ابنُ إسحاقَ رحِمه اللهُ: وحدَّثني عاصمُ بنُ عمرَ بنِ قتادةَ ،عن رجالٍ من قومِه، قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلامِ - مع رحمةِ اللهِ تعالى وهُداه لنا- لما كنا نسمعُ من رجالِ يهودَ؛ كنا أهلَ شركٍ أصحابَ أوثانٍ وكانوا أهلَ كتابٍ عندهم علمٌ ليس لنا، وكانت لا تزالُ بيننا وبينهم شرورٌ، فإذا نلنا منهم بعضَ ما يكرهون قالوا لنا: إنه قد تقارب زمانُ نبيٍّ يُبعثُ الآنَ نقتلُكم معه قتلَ عادٍ وإرمَ . فكنا كثيرًا ما نسمعُ ذلك منهم، فلما بعَث اللهُ رسولَ اللهِ r أجبْناه حين دعانا إلى اللهِ وعرَفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه، فآمنا به وكفَروا به، ففينا وفيهم نزَلت هذه الآيةُ: ] وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [ [البقرة:89]([5]).
 والحسدُ المذمومُ قد نهَى عنه النبيُّ r ؛
- فعن أبى هريرةَ t قال :قال رسولُ اللهِ r: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّهُ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا ، وَلَا تَجَسَّسُوا ، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا ، وَلَا تَنَافَسُوا ، وَلَا تَدَابَرُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ " ([6]).
 بل سمَّاه النبيُّ r الحالقةَ؛ لأنها تحلقُ الدينَ؛
- فعن الزبيرِ بنِ العوامِ t قال: قال رسولُ اللهِ r:" دبَّ إليكم داءُ الأممِ قبلكم؛ الحسدُ والبغضاءُ، البغضاءُ هي الحالقةُ، لا أقولُ تحلقُ الشعرَ، ولكن تحلقُ الدينَ، والذي نفسُ محمدٍ بيدِه، لا تدخلوا الجنةَ حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا ([7]) حتى تحابوا، ألا أنبئُكم بما يثبتُ ذلك لكم؟ أفشوا السلامَ بينكم"([8]).
فالحسدُ بين الأقرانِ في طلبِ العلمِ إذا كان من النوعِ الثانيِ فلا بأسَ، بل هو دافعٌ على الاجتهادِ، أما إذا صار إلى النوعِ المذمومِ فهنا مكمنُ الخطورةِ؛ فهو يؤدي إلى التنافرِ و التناحرِ والغِيبةِ وغيرِها، وقد يفتحُ من أبوابِ الشرِّ ما لا يعلمُه إلا اللهُ، نسألُ اللهَ السلامةَ والهدايةَ، لذا لا بدَّ من وأْدِ دافعِ الحسدِ في مهدِه.


([1])أخرجه أحمد (18374)، والبخاري (52)، ومسلم (1599)، والترمذي (1205)، وابن ماجه (3984).
([2]) ديوانه ص46.
([3]) أخرجه أحمد (4109)، والبخاري (73 ،1409)، ومسلم (816)، والنسائي فى الكبرى  (5840)، وابن ماجه (4209).
([4]) مجموع الفتاوى10/112،111.والحديث أخرجه أحمد (6403)، والبخاري (5025)، ومسلم (815)، والترمذي (1936)، والنسائي فى الكبرى (8072)، وابن ماجه (4209). وأخرجه أحمد (10214)، والبخاري (5026)، والنسائي فى الكبرى (8073) من حديث أبي هريرة.
([5]) سيرة ابن إسحاق(62) ومن طريقه ابن جرير فى تفسيره  2/237، والبيهقي فى الدلائل2/433،75.
([6]) تقدم تخريجه.
([7]) قال النووى رحمه الله : هكذا هو فى جميع الأصول والروايات : "ولا تؤمنوا " . بحذف النون من آخره، وهى لغة معروفة صحيحة .
([8]) أخرجه أحمد (1430)،والترمذي(2510) من حديث الزبير . وأخرجه أحمد(10177،9709)، ومسلم (54)، وأبو داود (5193)، والترمذي (2688)، وابن ماجه (68)، وابن حبان (236) من حديث أبى هريرة دون الشطر الأول.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق